علي أجنحة سودا نير ذهاب بلا عودة
أحد عشر عاما انقضت منذ أن كنت أحد ركاب الناقل الوطني سودانير، من علي احدي جزر البحر الأبيض المتوسط متجها ألي الخرطوم. حيث قضيت خمسة أعوام متتالية بعيدا هن ارض الوطن، حين كنا نسمع العجب العجاب عن معاناة الناس وكدهم في العيش. وحينها كانت الصدمة مريعة من المستوي المتدني في كل شئ وكأنهم يقولون أن ما تسمعونه حقيقة واقعة.
والآن وبعد كل هذه السنين مدفوعا بحس وطني صادق، بالمساهمة في دعم هذا الناقل الوطني بالسفر علي اجنحته، حجزت مقعدا علي احدي رحلاته متجها ألي مصر. وضاربا عرض الحائط كل الحكاوي والأساطير التي تحاك عن التأخير وإلغاء الرحلات والحقائب التائهة بين المطارات واللقب البغيض (ستهم) الملصق بهذا الناقل، أي سيدة الطائرات (تمشي علي كيفها وتجي علي كيفها).
الساعة 4:05 ظهرا
أبداء إجراءات الدخول ألي المطار.حيث كانت سهلة وسريعة وإمكانات الصالة ونظافتها جيدة جدا بالمقارنة بالوضع العام للمباني العامة عندنا، وكانت ستكون ممتازة لو التفتنا للتفاصيل الدقيقة التي تكمل الصورة روعة، فلا أدري كيف يصطف المسافرون والشاشات التي تعرض مواعيد الرحلات واتجاهاتها خارج الخدمة، أو تدلي سلك كهربائي من هنا أو هناك أوالفراغات التي لم تسد جيدا بين الألواح المعدنية اللامعة التي تغطي الجدران، والتي ذكرتني بالأغنية الشعبية (الشقو يدخل السحلية). ولكن العافية درجات.
الساعة 5:45
داخل الطائرة من طراز ارباص، للوهلة الأولي لمست التقدم الكبير عما كان عليه أخر مرة ، فكم كنت فرحا بهذا التطور من خلال لحظة الدهشة الأولي، ومن جراء الخلفية المظلمة في مخيلتي. أليس جميلا أن تزود الطائرة بشاشات تعرض خط سير الرحلة؟ أو ليس رائعا أن يكون لكل راكب رقم مقعد مدون علي بطاقته بدلا من فوضي التدافع ونحن ملوك الفوضى؟ أليس جميلا أن أكون علي متن الطائرة وبعد عشر دقائق سوف تقلع بالضبط كما هو مكتوب علي تذكرتي، فمن ذا الذي قال أن ناقلنا الوطني أكبر من لا مواعيد له؟.
الساعة 6:00
عشر دقائق تأخير عن موعد الإقلاع. وماذا يعني ذلك؟ لا شئ في خضم فرحتي العارمة بهذا الانجاز، فأين كنا من هذا كله، ثم انني يجب أن لا أنسي ثقافة الزمن عندنا فالدقيقة تعني خمس دقائق والساعة تعني أثنتين واليوم يومين أما أذا قلنا (بكرة) فهذا يعني أن الامر مفتوح . فلاشك ان هناك من لايزال يصعب عليه التماشي مع روح الفريق التي انجزت كل هذا. وعلي ان لا افسد فرحتي بعشر دقائق تأخير، اه يعني!
الساعة 6:10
يبدو أن الفرحة بدات تتلاشي، ليس بعامل التأخير وحسب بل بالجو الحار الذي بات يخنقنا داخل الطائرة، تلفت فأذا بالجميع ممسكا بأي شئ يمكن ان يحرك الهواء من حولهم وهم يتصببون عرقا وكاننا في السوق العربي منتصف النهار.
احد الركاب سأل المضيفة بغضب..
- ما تشغلو التكيف دا يا جماعة.
فكان رد المضيفة بكل ثقه غير مبررة ولا حتي مقبوله
- حيشتغل بعد ما تقوم الطيارة
والسؤال بالبلدي كده ليه ما يكون شغال اصلا .. ؟؟ أحد الساخرين قال
- دايرين يوفرو حق البنزين...
الساعة 6:35
الطائرة في طريقها الي الاقلاع والطاقم يشرح اجراءات السلامة والمفاجئة كانت عندما اشارو الي لائحة الطوارئ امام كل راكب مجرد ورقة متهالكة بالوان باهته وكتابة غير واضحة ومغلفة بقطعة بلاستيك رديئه حتي انني كدت اقسم انها صممت وطبعت وغلفت في احد ازقة محلات التصوير في ميدان ابوجنزير.
والاغرب من ذلك المضيفة وهي تتحدث بلغة انجليزية ركيكة متلعثمة ومحولة اياها الي شئ اقرب الي الانقاض، ولا ادري كيف يكون المستوي بهذا الشكل في واجهه تمثل البلد في كل العالم وتتعامل مع اجانب.
وحين بدأ الطاقم في توزيع الطعام بدا من الواضح الضعف الشديد في التدريب من حيث البطئ المبالغ فيه والارتباك وليس هذا وحسب بل الاسلوب الغريب حين تنادي احدي المضيفات الاخري بصوت مسموع...
- الصف دا وزعتي ليهم العصير؟
وزعتي ليهم العصير!! وكأننا في بيت سمايه، فمن المفروض ان كل شئ مجهز وكل فرد يعرف تماما دوره.
اما اللباقة واللياقة في الحديث فهو امر يحتاج الي كثير رعاية ايضا فلا ادري كيف توكون بروتوكولات الضيافة ناهيك الجوية تستقيم حين سألني احد المضيفين..
- بارد شنو يا باشا؟
وعندا أكملت اغراضي من سفري الي ارض الكنانة مصروأردت الرجوع قافلا صفعني الناقل الوطني بعشرات الركاب الواقفين في مكتبه المتهالك في القاهرة لايدري احدهم متي سوف تكون رحلة العودة الي الوطن في ظل فوضي الحجوزات، منظر كأيب للسودانيين في شارع المكتب وهم مرهقين مكفري الوجوه وكأنهم متسولين. وعلي الفورقصدت ناقلا اخر فباسلوب ناقلنا الوطني هذا سوف لن ألتزم بمسؤلياتي وارتباطاتي وسوف تعقد حياتي اكثر حين ارجع متأخرا الي ارض الوطن، فأتجهت لشركة خطوط تابعة لدولة أفريقية والماساة هي أنها اشد وأكثرفقرا وبؤسا منا بمراحل. وحين كنت علي متن أحدي طائراتها دهشت من المستوي الراقي والنظافة العالية ومن كل شئ حتي ان فرحتي الاولي بناقلنا الوطني نضائلت وقاربت علي التلاشي.
ان شراء طائرات جديدة وتحسين المواعيد وتقديم اطعمة ممتازة وصحف طازجة كلها اشياء ممتازة ولكن قد تعد في المرتبة الثانية فالمهم هو تغير الانسان ورفع مستواه فهو العصب الحقيقي لآي تطوير. ففي دراسة امركية قديمة عن خدمات الزبائن أن 5 % فقط من الزبائن يقولون لك حقيقة عيوبك وأخطائك، و 95 % يقولون لغيرك ويتركونك علي عماك، فأتمني ان اكون من المجموعة الاولي.
تعليقات