الزعيم والشماسة
ينما اطالع تقريرا اخباريا عن الحرب في السودان، وليس هذا بجديد فنحن نعلم اهولها أكثر من غيرنا، الا انني توقفت عند فقرة فيه تقول (فحجم الناتج القومي -رغم ثروات السودان الطبيعية الضخمة- لا يتجاوز 52 مليار دولار (عام 2001) في حين بلغ في دولة مثل كوريا الجنوبية التي كان يصنفها صندوق النقد الدولي في الستينيات هي والسودان "كحالتين ميئوس منهما" 472 مليار دولار). والتقرير بالطبع صحيح والا كيف ملئت سيارات كوريا كل شوارع الخرطوم والمدن الاخري. وعندها بالضبط تدافعت في ذهني التساؤلات هل نحن فقراء أم كسالي ، أم مغفلين ، أم ضحايا أم أم أم؟؟؟
هذه التساؤلات نقلتني الي الوراء عبر الذاكرة، يوم دخل اهل الحل والعقد (دون ذكر للمسميات أو الاماكن ، ففي كل بلد ما جماعة ما بيدها مفاتيح كل شئ) اقول دخلوا علينا قاعة الدراسة ، ولانهم اهل الحل والعقد فتحوا الابواب صارخين..
- الزعيم يريد الطلاب من اهل البلد فقط.
ولانه الزعيم اغلقنا الدفاتر والكتب ، وكنس المحاضر حاجياتة كنسا من علي الطاولة، وخرجنا متدافعين.
وكعادة الطلاب دائما تستهويهم المغامرة، قررنا خوض غمارها، فهذه فرصة لاتعوض لرؤية الزعيم عيانا بيانا، ولاننا كنا نشبه من حيث الشكل بعض اهل البلاد، بدت المغامرة قابلة للتحقيق ، وهي مغامرة لان الاوامر كانت واضحة .. الطلاب من اهل البلاد فقط.
استقلينا حافلات كانت في انتظارنا، فانطلقت بنا الي اين لااحد يدري فالزعيم لايقول، ولحسن الحظ كان مكان القاء قريبا عند اكبر قاعة اجتماعات في المدينة.. حيث احيطت بعشرات الجنود المدججين والسيارات المصفحة..
ووسط هذا الزحام كاد قلبي ان يتوقف حين فاجئني احدهم قائلا..
- أنت عندكم في السودان (م ط) ؟
فقد خارت قواي ، فأنا لا ادري اصلا ما هو ال (م ط) ولكن الشئ الواضح هو اننا كنا مكشوفين ومخالفين للتعليمات، وفي غمرة هذا الارتباك اجبته..
- طبعا عندنا بس هو شنو ال (م ط)؟
فأشار الي مدفع محمول علي سيارة وقال..
- مضاض لطائرات..
ولحسن الحظ لم يدر الحديث طويلا فقد بدأت عملية التفتيش.
تفتيش دقيق ، يقلبونك راسا علي عقب ، فعلي جسمك تارة تدغدغك اصابع الجنود الخشنة، وتارة اخري تثير اشمأزازك، ثم امرونا بأن نضع كل شئ خارجا قبل الدخول، الاقلام الساعات الكتب الحقائب، حتي الاحزمة، كلها تركناها خارج القاعة في تلة عظيمة من الحاجيات. وقرابة الساعة جلسنا داخل القاعة في انتظار الزعيم، في سكون اشبه بسكون الموت.
وفجأة يدخل علينا من باب صغير، تحت هدير من الهتاف والتصفيق والحماس، وهذا امر مهم فعكس ذلك قد يثير حولك الظنون، وأهل تلك البلاد دائما ما يحكون نكتة بهذا الخصوص، حيث يقولون ان الزعيم ذات مرة زار احدي المناطق فخرج اهلها لاستقباله كالعادة هاتفين بحياته ونظامه، وكان احدهم يستصحب ابنه الصغير والذي باغته بين الناس متسائلا ..
- ابي اليس هذا هو الرجل الذي تغلق في وجهه التلفاز؟؟
فتجاهله الاب فكررها مرة اخري فما كان من الرجل الا وصرخ..
- ياناس ابن من هذا يا ناس؟؟
المهم جلس الزعيم ونشرت من خلفه خريطة كبيرة للعالم، ثم باشارة من يده حل السكون ثانية ارجاء القاعة. ثم اخذ بالاسترسال في حديث مطول عن المياه ومصادرها واستخداماتها واستهلاكها العالمي، ثم اخذ يشرح كيف أنها سوف تكون في المستقبل القريب المسبب الاول للحروب للسيطرة علي مصادرها ، وهكذا اسنمر حتي وصل لحقيقة يعتقد بصحتها الاوهي ان بلاده من تلك البلدان التي ليس لها مستقبل بسبب ندرة المياة وعليه يجب الرحيل منها. كذا...
بالمناسبة ليس الرحيل بالامرالسهل كما يعتقد الزعيم فلا زال وحتي الان يتوق اهالي حلفا القديمة الذين عاشوا فيها اليها، ولازال الفلسطينيون يناضلون ليعودوا لارضهم من الشتات.
وفجـأة تتحول نبرة الزعيم الي شئ من التوبيخ عندما يتسائل..
- ام أنكم لاتشعرون بالمشكلة ويلف (السن توب) رؤسكم؟...
ثم مستهزئا ومدلل علي صحة كلامه أخذ يحكي كيف أنه ذات مرة زار احدي الجامعات فلاحظ ان الطلاب يشربون شيئا في علبة كرتونية ويرتشفوه بأنبوب صغير وحين سأل عن ذلك أجابه حراسه بأنه (السن توب) عصير برتقال مستورد من اوروبا، ثم تسائل...
- هل تعرفون ما بداخل تلك العلب؟؟...
- لا (القاعة كلها وبصوت واحد).
- انه البترول، صدرتموه وعاد اليكم عصير برتقال، وعندما ينتهي مافيش (سن توب)تاني...
ثم واصل...
- في الماضي هاجرنا لدول الجوار ونحن فقراء فأصبحنا عالة عليها، اليوم نحن أغنياء وهم فقراء سوف تكون حالة اشبه بالشراكة هم بالمياة والارض ونحن بالمال...
وهنا تخيل الموقف...
- عليكم وبما انكم الشريحة المستنيرة والثورية الذهاب الي بيوتكم مباشرة لتقنعوا ذويكم بالرحيل الي بلدان لها مستقبل لان بها مياة أما البترول فسوف نقدره ونتقاسم ثمنه، لقد حانت لحظة العمل أم تريدون ان تكونوا شماسة.. أتعرفون من هم؟؟
- لا (مرة اخري وبصوت واحد)..
- أنهم السودانيون أعطاهم اللة مياة من فوقهم ومن تحتهم واراضي خصبة ويجلسون تحت الشمس يتباكون بأنهم فقراء وجائعون...
وبشكل غريزي ثارت في دواخلنا ثورة للدفاع عن بلادنا، وانزلنا عليه وعلي نظامه جام غضبنا ولعناتنا ، بالطبع في أذهاننا فقط فنحن بين يدي الزعيم.. ثم عدنا ادراجنا كما أتينا نحكي لمن فاتهم من الزملاء، وطيلة ايام نغص علينا الزعيم حياتنا فما أن تمشي في الشوارع حتي يهتف فيك احدهم يا شماسي.
الزعيم لايدري أن الشماسة هم من دفع ثمن تعليمنا ورغد عيشنا سنينا، وهم من دفع ويدفع ثمن أخطائنا السياسة والاقتصادية والاجتماعية، الزعيم لايريد ان يقول ان فطرة الانسان الاستقرار والامان وليس التشرد والضياع, الزعيم لايدري ان الشماسة ليسوا افراد فقط بل حتي دول تدفع ثمن رفاهية دول اخري. فهذا هو مفهوم الشماسة الذي اعرفة ولكن بمفهوم الزعيم اي اناس يملكون ويتكاسلون فأعتقد انه صحيح فماعليك الا ان تزور اي دائرة لاجراء اتفه اجراء وسوف تري بأم عينك الزعيم هناك.
تعليقات
تحياتى
ها انت هنا تكتب بعربية حرفا وعاطفة
رغم ان رسالتك كانت على لفة اهل اكسفورد ولك كل الشكر
الزعيم والشماسة
موضوع اعجبنى جدا وامتعنى صياغك للحكايا وعشتها بين متعة القراءة والم الواقع
ويارة وسنعود