قتل الام الكبري في صورة خنق الارض
مأزق الحضارة الانسانية3
في المأزقين الذين تحدثنا عنهما في مقالين سابقين، ذكرنا أن الانسانية تعاني من مشاكل جمة علي المستوي الحضاري بكل ما يحمله ذلك من انتاج ثقافي ومادي لهذا العصر، الشئ الذي بات يشكل مصدر الم ومعانة لها. والمأزق الحضاري الذي تحدثنا عنه في المقالين تجسد في وجهين اساسيين للمعاناة البشرية الان وهما الجمع بين النقيضيين، الاول السلوك العام لانسان العصرالحالي المتبني لفلسفة الفردية كأساس للتعامل مع من حوله والذي انعكس بدوره علي المجتمع ككل ثم علي الدول متمثلا في التعامل فيما بينها،وذكرنا أن رعاية المصالح الفردية أو النخبوية أو الدولية حتي ولوكان علي حساب الاخريين جعلنا نتصرف وكأننا الوحيدون علي هذه الارض. ثم يأتي الوجه الاخر من مأزق الحضارة الانسانية في محاولة تبني نقيض الفلسفة الفردية الاوهوالجماعية في نفس الوقت، وهو ما نمثله في الديمقراطية كألية لهذه الجماعية مع ملاحظة اننا لانذهب بعيدا بهذا الخيار كما نفعل مع الفردية ونبقيه فقط في حيزالسياسة.
وفي خضم هذه التناقضات، تنعطف البشرية بشكل غير مسبوق الي انتحار جماعي بدأت تشعر به رويدا رويدا ليس من خلال الابحاث والنشرات العلمية في الحديث الجاري الان عن التلوث البيئي وأكبر واخطر مظاهره المسمي بالاحتباس الحراري وحسب بل ايضا من الشعور بما يحدثه ذلك من تغيرات مناخية يمكن ملامستها باليد وتأثيرها علي الحياة اليومية بكافة اصعدتها. وهنا ايضا يتجدد المأزق الحضاري مرة اخري حين نكتشف ان كل مايحدث مربوط ربط وثيق بالمأزقين الاولين الفردية والجماعيه الملتف عليها، أكثر من كونه ثمنا اومجرد اعراض جانبية للتطور العلمي والتكنلوجي الهائل الذي احرزته الانسانية في العصر الحديث.
والارض في مخيلة الانسان منذ القديم بمثابة الام، بل ان الامر تجاوز ذلك لتصبح واحدة من أشهرالمعبودات علي مدي الاف السنين، وتطورت الوهيتها لتصبح الانثي المقدسة رمزا لها، لما يجمع بينهما من تشابه فيما يتعلق بالخصب والولادة والنماء واستمرارية الحياة.وحين نضحك علي اهلنا النوبيين في شمال السودان حين يقرنون اسماءهم باسماء امهاتهم نغفل ان هذا ماهو الا انعكاس لذلك التقديس القديم للارض منعكسا ومنتقلا الينا عبرالانثي. وحين يصرخ الفلاح بأن الارض هي العرض يكون ذلك صدي للماضي البعيد حين كان الانسان مندمج مع الارض – الام ومتوافق معها.
وبالعودة الي مأزقنا الحضاري ، نجده يتجسد هذه المرة في عدم القدرة علي التناغم مع الطبيعة وقتل الام – الارض دون ادني شعور بتانيب الضمير أو ولربما دون حتي امكانية الشعور بالوضع الحرج الحقيقي الذي ينجم علي التدمير المنظم للطبيعة وبوتيرة سريعة وأثره علي الانسان نفسه، بناء علي مبادئ اقتصادية مختله يدعمها سلوك سياسية لايمكن وصفه بغيرالاجرامي حين يتعلق الوضع بقتل الام – الارض وبالتالي دمار الانسانية جمعاء.
فحين يعجز كوكب الارض عن التنفس بأستهلاك كميات ثاني أكسيد الكربون المنبعثه جراء نشاطتنا علي سطح الارض ولقطعنا الهمجي للغابات التي تمثل الرئه للكوكب، يكون معني ذلك أن الام – الارض تموت خنقا، وهذا هو ماتعبر عنه الطبيعة بأرتفاع
درجات الحرارة الذي ينجم عنه ذوبان الجليد في الاقطاب وارتفاع مستويات البحار والمحيطات مهددا ملايين البشر علي السواحل وفي الجزر بالغرق. والبحيرات والانهار التي تجف مخلفة ورائها صحاري تتضخم دون توقف، حتي ان الصراع من أجل مصادر المياة اصبح السبب الغير معلن في كثير من الحروب والصراعات. لابل حتي الاعاصير الهوجاء المدمرة التي لم تشهد البشرية مثلها من قبل يعتقد انها مظهر من مظاهر اختناق الام – الارض، هذا ناهيك عن التلوثات الاخري الذي يتسبب فيها الانسان ليس لطبيعة وحسب بل لنفسه ايضا، فأحد التقارير يذكر مثلا ان النسيج الدهني للمواطن الامريكي يحوي 10 اجزاء من المليون من مادة ال د.د.ت والاسرائيلي علي 19 جزء في المليون وللهندي 29 جزء في المليون من نفس المادة، فأذا كانت هذه التراكيز الكبيرة لمادة سامة واحدة متواجدة داخل الانسان بهذا الكم، فكم ياتري بثثنا منها في للارض.
وقد يكون هذا هوالجانب المرئي من جبل الجليد، الا ان الجزء الاكبر القابع تحت السطح هو ان الحضارة الانسانية بألياتها الحالية باتت عاجزة عن خلق وعي يوازن بين حاجات الانسان ومتطلبات تطورة بالتوافق مع الطبيعة، التي هي الميدان لكل نشاط بشري. وهذا الوضع كما ذكرنا ما هو الا نتاج المازق الانساني الذي خلق وولد من رحم العلاقات الاقتصادية الغير عادلة والسياسات المبنية علي اسس فلسفة الفردية المطلقة والانانية. فالشعوب الفقيرة لم يترك لها سبيل للعيش في عالم منوحش سوي الاستمرار في استنزاف موارد الطبيعة بجنون لسد رمقها، والدون الغنية حيث تم تحويل الانسان فيها الي كائن مستهلك نهم يبدد الطاقة دون ادني شعور بما يحدثة ذلك في الطبيعة. والغريب انه حتي المشاكل الاجتماعية والاقتصادية تحل بمعزل تام عن الطبيعة، فأيجاد المزيد من فرص العمل والاستثمارات، يتم من خلال الاستمرار في انشاء صناعات من المعروف دورها المدمر للبيئة. بل ان الدول ترفض اي اصلاح
للبيئة اذا ما كان ذلك يتعارض مع مصالحها الاقتصادية، وهذا بالضبط ما فعلته دولة كبري مثل الولايات المتحدة فيما يتعلق بقضية الاحتباس الحراري كمثال. وبالتالي يكون جان ماري بيلت مؤلف كتاب عودة الوفاق بين الانسان والطبيعة علي حق حين يقول انه اذا كان القرن التاسع عشر قد قتل الاله والقرن العشرين قد قتل الانسان فأن القرن الواحد والعشرون سوف يقتل الطبيعة.
ومن هنا بات من الواضح ان ازمة الانسان اصبحت في المأزق الحضاري المكون من ثلاتة وجوه مربوطة مع بعضها ربطا ميكانيكيا،بحيث لا يمكن البحث في احداها دون ظهور البقية أو في معزل عنها، وهي الفردية والانانية الطاغية والمسيرة للسلوك البشري في هذا العصر، وأكذوبة الجماعية المتمثلة في الالتفاف علي الديمقراطية وافراغها من محتواها الحقيقي، والانتحار الجماعي عن طريق استنزاف بل تدمير الارض بالتلوث البيئي، كلها تدل علي ان مولدات الحضارة الانسانية في هذا العصر تحتاج لاعادة نظرلانتاج وعي انساني جديد يشمل الذاتي والجماعي ويتوافق مع الطبيعة ومن خلاله يتغيير الواقع الماساوي الذي نعيش.
تعليقات